هل الإدارة علم ، أو فن ، أم مهنة؟
نعم البعض قد يقول أن الإدارة ما هي إلا العناصر السبعة الشهيرة التي أتى بها العالم الإداري الشهير في العام 1937م لوثر جوليك المسماة POSDCORP والتي تعني (التخطيط، والتنظيم، والتوظيف، والتوجيه، والتنسيق، ورفع التقارير، وإعداد الموازنات). حقيقةً هذه إحدى النظريات الإدارية، وقد تم انتقادها كثيراً ومن أبرز الانتقادات التي وجهت لها على الإطلاق كانت من قبل أحد أبرز العلماء الإداريين ومؤسس المدرسة السلوكية في الإدارة الدكتور هيربرت سايمون حين وصفها بأنها لا تتعدى كونها أمثال إدارية، وليست مبادئ إدارية. فإن كانت نظرتك للإدارة فقط هذه المبادئ فأنصحك بقراءة كتاب سايمون الصادر في العام 1947م بعنوان (السلوك الإداري)، وقد تراجع نفسك بعد هذا المقال. هناك ثلاث مجموعات رئيسية تنظر كل منها إلى الإدارة بشكل مختلف عن الأخرى، ولكلٍ منها جدلياتها في ذلك، وسنستعرضها كلها بشكل موجز ومختصر في هذا المقال.
تدعي المجموعة الأولى أن نظرية الإدارة يمكن ويجب أن تكون علمية لا تحتوي قيم، بل فقط تحتوي على حقائق ووقائع ثابتة لا تتغير في ظل عدم تغير المعطيات (مثل الرياضيات، 1+1=2)؛ المجموعة الثانية تؤكد أن الإدارة كانت، تاريخيًا، فنًا. وبالتالي فهي محملة بالقيم (كالمساواة والعدالة والإنصاف والأخلاق الحميدة ونحو ذلك)؛ والمجموعة الثالثة ترى أن الإدارة مهنة تملك كل تلك العناصر من الفن (القيم) والعلم (الحقائق البحتة).
تتألف المجموعة الأولى في معظمها من علماء المدرسة الكلاسيكية في الإدارة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، والمدرسة السلوكية الأولى التي ظهرت في الأربعينيات، ومؤخرًا العلماء الذين يطبقون النظريات الاقتصادية في المنظمات. ويدعون اتباع هذه المجموعة إلى اتباع نهج علمي وضعي لا يقبل سوى الحقائق المجردة والمثبتة والتي يمكن التنبوء بنتائج تطبيقها في مكان العمل. ووفقًا لهذه المجموعة، لا يوجد مجال للتكهنات أو العقل أو الأفكار الفطرية. وبالتالي تعريف الإدارة يختلف من مكان لأخر حسب الحقائق المثبتة لكل منظمة ولكل مجال عمل على حدا. حيث أن نظرية الإدارة هنا تكون استنتاجية وليست استقرائية، وتكون الإدارة قائمة على فرضيات خالية من القيم وقابلة للاختبار والإثبات وتقبل الثبات في ظل ثبات المعطيات. ويرون أن منهج البحث الكمي القائم على التجربة هو الطريقة الوحيدة، “أفضل طريقة”، للبحث عن الحقيقة والوقائع واكتشافها في الإدارة. أي أن البيانات الكمية هي التي تنتج الأفكار والمفاهيم الإدارية، وليس العكس.
المجموعة الثانية تنظر إلى الإدارة على أنها فن. ويرون المجموعة الأولى بأنها “تضع العربة قبل الحصان” وذلك لأنها تنتج المفاهيم الإدارية من التحاليل الكمية، وليس العكس. بالنسبة لأعضاء هذه المجموعة فهم يرون أن المفاهيم والأفكار الإدارية المستمدة من العقل هي التي يجب أن تنتج البيانات الكمية المنشودة. حيث تحظى الاهتمامات العقلانية والمنطقية والتساؤلات الفلسفية حول جوهر الإدارة وسببها ووجودها وكينونتها والغرض منها بمكانة بارزة في البحث الإداري وبناء النظرية الإدارية في هذه المجموعة. إنهم يتركون مجالًا للتفكير والإبداع، والجدلية ، والاستقراء. وهم يجادلون بأن المصدر الرئيسي للمعرفة الإدارية هو العقل. ويرون مناصري هذه المجموعة أن الإدارة لا يمكن أن تكون خالية من القيم، فيجب أن تحتوي على المساواة والفضيلة والأخلاق الحميدة في كل تعاملاتها وليس فقط تهتم بالانتاجية الكمية، ويجب أن تراعي المشاعر والعلاقات الإنسانية. حيث يرى مناصري هذه المجموعة أن الإدارة يمكن أن تكون شراً خالصاً إن اطلق لها العنان وتم قياسها علمياً بناءاً على الحقائق البحتة التي لا تلتفت للقيم والأخلاق، وبالتالي ينطبق عليها مقولة الغاية تبرر الوسيلة. فهم يرون أن الإدارة وإن كانت نتائج قياسها من الناحية الانتاجية والكمية عالية فلا يمكن اعتبارها إدارة ناجحة أو إدارة بالأساس دون وجود للقيم. وبما أن الإدارة فن فهي مليئة بالأخلاق والقيم التي يحملها الأشخاص، فإذاً الإدارة شخصية وتختلف من شخص لأخر بناءاً على مبادئه الشخصية وخبراته ومهاراته. حيث أن الفن شخصي ويختلف من شخص لأخر حسب اجتهاده وصفاته المكتسبة والموروثة. وممن يمثلون هذا المنهاج مدرسة العلاقات الإنسانية التي ظهرت في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، والعقلانيون الأوائل الذين مارسوا الإدارة عبر التاريخ.
المجموعة الثالثة تنظر إلى الإدارة على أنها مهنة (حرفة) مكونة من مزيج من النظريات والمفاهيم والاسس العلمية (العلم) والخبرات والمهارات والمبادئ والقيم والأخلاق الشخصية (الفن)، وبالتالي الإدارة هنا هي فن وعلم معاً. وبالنظر إلى الطبيعة المتنوعة الواسعة والتطبيقية للإدارة، نرى الإدارة تتقاطع مع جميع العلوم الطبيعية والإجتماعية والإنسانية التي توصل إليها البشر. وبالتالي لايمكن للإدارة أنتكون علماً خالصاً ولا فناً خالصاً، وإن البحث الإداري يجب أن يكون تعددي المنهجيات وكمي وكيفي من وجهة نظر هذه المجموعة. وبالتالي، لا توجد طريقة واحدة أفضل لإجراء البحوث الإدارية. ولذلك لا يوجد طريقة واحدة لوصف الإدارة، ولذلك لا توجد حتى الأن نظرية موحدة للإدارة متفق عليها بشكل عالمي بين العلماء الإداريين. ويرون مناصري هذه المجموعة أن الإدارة يجب ألا تسعى إلى منهجية واحدة معينة، حيث لا وجود لأفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة. ومن مناصري هذه المجموعة العلماء الإداريون المعاصرون، وخاصةً من بعد ظهور مدرسة النظم الإدارية في الإدارة في بداية الستينات من القرن الماضي. ويتضح وصف الإدارة في وجهة نظر هذه المجموعة في مقول أحد رواد هذه المجموعة وهو العالم الإداري الشهير جورج فريدريكسون عام 2000 بقوله: “يمكن أن يستفيد حقل الإدارة بشكل كبير من التقارب بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية.” ويواصل قائلاً: “تساعدنا الأدوات التحليلية للعلوم في معرفة كيفية عمل المؤسسات وكيفية عمل المديرين العامين. لكن معرفة المنظمات وإدارتها لا يعني فهمها. يتطلب الفهم المنظور والخبرة والحكم والقدرة على التخيل. هذه الصفات لها علاقة أقل بالمهارات التحليلية وأكثر ارتباطًا بالفلسفة واللغة والفن والعقل“
كخاتمة، لا يمكن القول عن أي مجموعة من المجموعات الثلاثة أعلاه أنها خاطئة. فالإدارة بالنهاية هي أحد فروع العلوم الإجتماعية. وفي العلوم الإجتماعية لا يوجد خطأ كامل ولا يوجد صواب كامل. فهي بالنهاية مفاهيم نسبية تسعى للكمال دون أن تدركه جله. ولكن لابد أن تحتوي الإدارة على القيم والأخلاق الفضيلة والحميدة ما امكنها، وإعطائها أولوية أكثر من أولوية الإنتاجية والربحية. وقد رأينا أمثلة لحكومات ولشركات خاصة عندما أعطت الإنتاجية والربحية أولوية أعلى من مصلحة المجتمع والمصلحة العامة والأخلاق الحميدة، أن هذا عاد عليها بالخسران المبين. وقد انهارت حكومات وأفلست شركات عملاقة حين لم تضع العدالة والإنصاف والأخلاق الحميدة في أعلى سلم أولوياتها والأمثلة على ذلك كثير في العصر الحديث والقديم. وبالتالي فإني شخصياً أرى أن الإدارة فن وعلم معاً، مثل فريق كرة القدم يلعب كل لاعب بفنه الخاص، ولكن تحكمهم جميعاً قواعد وأنظمة يراقبها الحكم، وتحتوي على أساليب لعب علمية مدروسة ومثبتة يتدرب عليها اللاعبون حتى يتقنوها، ودراسة علمية للجهد البدني لكل لاعب لمعرفة متى يمكن تبديله بأرض الملعب، ويجب ان يكون اللعب أخلاقياً خالي من الأذى والعنف اللفظي والجسدي وإلا سيواجه اللاعب المعتدي كرت أحمر. ولا يمكن للإدارة أن تكون علماً بحتاً لأنها تتعامل مع بشر، والبشر بطبيعتهم ليسوا ثابتين حيث يتأثرون بالحزن والفرح ويمرضون ويشيخون ومشاعرهم تتغير حسب الحالات التي يمرون بها.
تسلم ايدك ي فندم
تسلم ى صديقي