728x90
728x90
previous arrow
next arrow
أدبمنوعات

(اللجنة) قصة قصيرة بقلم محمد مصطفى

728x90
728x90
previous arrow
next arrow

 

إجتماع اللجنة فى العاشرة…سيعرض علينا اليوم ثلاث حالات لتقرير مدى سلامتها العقلية من عدمه…وبصفتى طبيب مخضرم اعلم جيدا انه لا يوجد من هو سليم عقليا..لابد من عقدة او مرض نفسي على الاقل يستقر فى لاوعى كل منا…سيئوا الحظ فقط هم من تتطرف امراضهم او تشذ عقدهم فيبدؤن فى ازعاج الآخرين.. وهنا يأتى دورى لاقرر اى اضطراب نفسي يجب حجزه فى المستشفى وايها يمكن أن يعود ليمارس تأثيره على المجتمع…كتا ثلاثه استشاريين وبصفتى الأقدم والأكثر خبرة صرت رئيسا للجنة..ولجت إلى المكتب بصدر مختنق..فحضور جلسات كهربية فى الصباح لم يفشل ابدا فى إفساد مزاجى…وبرغم اعتيادي على ذلك لكننى لا أفضل أن ابدا بها يومى…المريض فى عنبر ٧ اضطرنى إلى ذلك..ثار اللعين فجأة وراودته رغبة سادية بأن يأكل لسان زميله..احتاج الأمر إلى ثلاثة ممرضين اشداء للسيطرة عليه وعشرين دقيقة سرت خلالها فولتات الكهرباء فى دماغه….
فنجان القهوة السادة ينتظرنى وثلاث ملفات مكتوب على غلاف كل منها اسم المريض والتشخيص المبدئي..اعتذر الدكتور شادى عن الحضور لارتباطه بمؤتمر طبي والدكتور ابرهيم لاصابته بدور برد حاد وفوضونى لاتخاذ القرار واستيفاء توقيعاتهم عليه لاحقا..لا بأس عندى فهو عمل روتيني فى النهاية وهم من تلامذتى الاوفياء…لم اهتم بقراءة ما بالملفات حتى لا يؤثر على حكمي المهنى خاصة انها عادة ما تكتب على عجل من صغار عديمي الخبرة وبتعجل يليق بسنهم الصغيرة…
أمرت بإدخال الحالة الأولى…لا جديد..حالة اكتئاب حاد…لم أجد ما بدعوا لايداعه بالمستشفى..اوصيت بخروجه مع المتابعة مع أخصائي.. خرج من الغرفة اكثر اكتئابا كما خمنت…ثم دخلت الحالة الثانية..
كان مظهره غريبا ان كان هناك شيء فى مستشفى امراض عقلية يمكن أن يكون غريبا…قدرت عمره بين الخامسة والاربعين والخمسين..يرتدي بدلة كاملة رمادية وربطة عنق أنيقة محكمة تحت ذقن مشذبة بعناية..يبدو كمحامى او موظف بشركة اعلانات ..لكن نظراته الشاردة افسدت مظهره واثارت فضولي المهنى ففتحت ملفه وتصفحته سريعا…
_اسمك؟
_محمد علواني.
_كام سنه؟
_واحد خمسين.
_بتشتغل ايه يا محمد ؟
_بوسطجى.
_ملفك بيقول انك مدير شركة.
_بوسطجى..بوصل رسايل.
_انت عارف انت هنا ليه؟
_عارف….عشان بشوف الاموات.
_من امتى؟
_من سبع شهور من ساعة ما ابويا مات.
_وبتشوفهم وانت صاحى ولا وانت نايم ؟
_وايه الفرق…انت متأكد دلوقتى ان كنت انت نفسك صاحى ولا نايم؟…متأكد انك مش بتحلم؟
(حلمت بالأمس اننى فراشة…كنت احلق واطير كفراشة واشعر كفراشة ..كنت واثقا من ماهييتى…عندما صحوت من نومى سألت نفسي: هل كنت بالأمس رجل يحلم بأنه فراشة ..ام اننى الآن فراشة تحلم بأنها رجل)..
_ بتشوف مين يا محمد وبيقولك ايه؟
لم يجب…نظر إلى الحائط خلفى وتمتم بكلمات غير مسموعة وكأنه يخاطب شخصا ما…
أعدت السؤال مرتين حتى انتبه فأجاب:
_بشوف ناس كتير.. ناس عرفتها وناس معرفهاش.
_زى مين؟
_ اول مرة كان ابويا بعد ما مات بيومين …حكى معايا عن ماتش الأهلى..أصله لما كان عايش كان اغلب كلامنا عن الكورة..عشان نكسر جدار الصمت بينا لاننا مكناش صحاب…ففهمت ان الموت مغيرش بابا وان دى فضلت طريقته عشان يقرب منى…وجالى بعد كده كتير..بنتفرج سوا على ماتشات…
مرة زارنى نيتشه..قالى انه استعجل لما قرر ان الإله مات..لأنه قبل شهرين من وفاته تراجع عن رأيه بفعل ألم رهيب بمؤخرته نتيجة التهاب بواسير حاد فشلت فى تخفيف حدته العلاجات المعروفة فى زمنه فلقي نفسه بيهتف من اعماقه:
يا رب.
فتأكد من حاجته هو نفسه لوجود الإله لما تستعصي الحلول الدنيوية..
وقال كمان انه مش ندمان على مرض الزهرى اللى أصابه بسبب عشقه للعاهرات لان الوقت اللى قضاه معاهم هو أفضل واطهر أيام حياته…
من اسبوعين قعدت مع نجيب محفوظ على القهوة قالي ان إعجابي بشخصية سعيد مهران بيرجع لوجود ميول عدوانية جوايا ونوازع عنف ضد اللى يضايقني.. وان عندى رغبة مكبوته فى انهاء حياة من اعتقد انهم أعدائي كحل سهل وأبدى عشان اتخلص من ازعاجهم لتوحدى وسلامى النفسي…وانا آمنت على كلامه وحبيت على راسه المقدسة.
كنت اراقب المريض وهو يحكي..كان مصدقا لما يقول ككل مرضى الاسكيزوفرينا..
هكذا شخصت حالته ودونتها على الورقة المخصصة لراى اللجنة…وفجأة سمعت المريض يقول بثقة:
_مش شيزوفرينا يا دكتور…انا حقيقي خلي بالك.
تجمد القلم فى يدى وتوقف عقلي عن التفكير لحظة ثم استنتجت ان شخص مثقف مثله لابد وانه توقع تشخيصي لحالته او سمعها من احد الاطباء اثناء الكشف المبدئي ووجدت نفسي اسأله متظاهرا بالاستهانة:
_وانت عرفت منين يا استاذ؟
اجابنى ببساطة:
_من مراتك.
اندهشت للحظة ارتشفت فيها رشفة من قهوتى المرة:
_ مراتى؟ مراتى ف شغلها يا محمد..مالك انت ومالها خلينا ف حالتك يا بنى.
نهض ببطء وسار مقتربا من حافة مكتبي..مال نحوى هامسا بصوت كئيب:
_ مش مراتك دى يا دكتور…مراتك الاولانية..داليا..فاكرها؟ اللى انت قتلتها.
تجمد الدم فى عروقي وجثم شيطان فوق صدرى..ولوهلة لمحت ظلا أسودا ما بينى وبين الرجل..قفزت الى ذاكرتي صورة وجهها الحميم اليائس ويداى الملتفتان حول عنقها تنتزع من روحها اخر قطرات الحياة.
افقت على صوته مواصلا حصارى:
_ هيا واقفة جنبك من ساعة من دخلت الاوضة..بتكلمنى…بتقولك مش مسمحاك على شكك فيها وانك موتها غدر…
بتقولك هيا مبسوطة بس لان دى كانت الطريقة اللى خلصت بيها من البارانويا اللى عندك و من خيانتك…
وبتقولك ان عمرها ما حبت البرفان اللى كنت بتصمم تجبهولها وعارفة انه كان بيثيرك بس عشان مريم حبيبتك الاولانية كانت بتستخدمه.
جردنى من ملابسى فى ثوان واطاح بعقلي حتى تناثر فى ارجاء الحجرة وتلاشى…وجدت نفسي اصرخ فيه:
_ انت مجنون.
تنازلت عن مهنيتى دفاعا عن ذاتى…
اوصيت فى التقرير ان يعزل مع أدوية منومة باستمرار..و ثلاث جلسات كهرباء أسبوعيا لمدة سته اسابيع.
غادرت مبني المستشفى غير مصدق لما حدث…اخترقت شوارع المدينة بسيارتى الفارهة معتقدا اننى تصرفت التصرف الامثل فى موقف سريالي كهذا..
بعض الأمراض يجب أن
تعزل للأبد…وبعضها يسمح له بالتغول فى المدينة كما افعل الان..
من يعزل..ومن يبقي..؟
انا الذى يقرر ..
مادمت فى اللجنة.

5 1 تصويت
Article Rating
اظهر المزيد
728x90
728x90
previous arrow
next arrow
5 1 تصويت
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
ردود الفعل المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
0
أحب أفكارك، يرجى التعليق.x
()
x