عميد دكتور عمرو ناصف يكتب ( إسعاد الآخرين )
.. قد تتحول فى لحظة واحدة – لإصابتك بمرض مفاجئ أو عدوى لم تكن فى الحسبان أو حادث عارض أو حتى دواء خاطئ – إلى مريض مزمن لايرجى شفاؤه ، وفى لحظة عابرة غابرة تجد نفسك تقف مشدوهاً أمام صدمة تشخيص الطبيب أو فجيعة وريقات التحاليل وصور الاشعات ، ثم تبدا القصة :
– تنصرف عنك متع الحياة الواحدة تلو الأخرى ، بعد أن كنت ذلك المدقق فى كل جميل تأكله وتلبسه وتشتريه ، ثم تعلوك الهموم بعد ضحكاتك التى ملأت قلوب الاماكن بهجة ، وتحاصرك الأوهام ، وتغدو تكات ساعة الحائط قرين أيامك المتناقصة .
– ماعدت تكترث لما قيل ويقال ، لم يعد فى مفرداتك سوى كلمات قليلة كالصلاة والصيام والقران والصدقة ، وتخلت كل معاجمك عن أى مرادف لفيس بوك ، أو واتس آب ، أو حتى الرد على مكالمات الهاتف ، ثم لا تلبث أن تهاب طيب الطعام والشراب خشية أن يعاجل بموتك ، ورويداً تجد نفسك تلجأ بطيب نفس للفراش , فلا رغبة لديك فى خارج غرفتك بعد ان كانت الشوارع تعج بخطاك , وكل المجالس تنتظر لقاك ، ومن نوم إلى نوم إلى يأس تغدو صورة إنسان بدرجات الأبيض والأسود تحد ملامحها ظلال السنين .
– تبدأ فى تصفح صورك وصور أبناءك وذويك حين كنتم ، وكنتم ، وكنتم ، وتبدأ فى إختلاس النظرات على وجوه أبناءك ومن حضر من أهل البيت ، وتُطرق فى شرود سابح بين ما كنت تخطط له وما صار لزاماً عليك ، وتتخبط فى رجع صدى بين ما كنت تنوى وما اصبح مفروضاً ، ثم تشيح بوجهك نحو الحائط علك تبكى فتستريح .
– تعرف تلك النظرة فى وجوه من حولك ، أهلك ، زوارك ، أصدقاءك ، فلطالما كنت زائراً لأحدهم حين خاض غمار ذلك الدرب ، وحين تكتشف أنك صرت ذلك الأحد ينتابك ذلك الهبوط الحاد من أعلى قمم المجهول لمجرد تذكرك بأنه لم يعد موجوداً بيننا ، وها قد دارت الدائرة عليك .
– ومن زيارة صديق حاضر ، إلى مكالمة من قريب غائب ، لجمل تتردد على مسامعك كما ترددت على مسمع من سبقوك :
( لابد ان تغير الطبيب )
( لاضير من إعادة تلك التحاليل )
( ولابد أن تخرج وتتحرك ولاتستسلم )
وبين حبيب يتمنى شفاءك ، وصديق يدعو لك ، وغيرهم لم يصل إليه الخبر بعد ، لا يدرك هول الفكرة إلاك ، وقد عجزت لغوياتك عن وصفها لهم ، فتعود لتشيح بوجهك من جديد صوب الحائط علك تبكى .
– تتزاحم عليك المراجعات , فلا تدارك لما فات , ولا إستعداد لما هو آت ، ثم تبدأ إستعراض مافات ، وتعيد حساباتك لماهو آت ، فتجد أن الله قد أمهلك وأمهلك ومازال يمهلك ، وأن العبرة ليست بكمية الوقت ولكن بقيمته ، وأن ما مر كان طويلاً دون فائدة ، فتقرر أن الآت سيكون طويلاً وإن كان أياماً معدودات ، فالعبرة بما تتركه خلفك من سعادة ، وابتسامة عيون تحبك حين تتذكرك ، وإن كان موقفاً واحداً إستطعت فيه أن تسعد من حولك .
– فتقوم ، وتبدأ فى إسعاد الآخرين ، ففى إسعاد من حولك مرضاة لله ، وحين يرضى الله عنك .. يرضيك.
العبرة بما تتركه خلفك من إسعاد الآخرين..