كتبت/ إيمان النجار
قصة ‘المعطف’ للأديب الروسي نيكولاي غوغول
( كلنا خرجنا من معطف غوغول ) فيودور ديستويفسكي
هذه القصة القصيرة التي ذاع صيتها وأشهرت كاتبها وأنتجت بذاتها جنسا أدبيا له أركانه سمي ( القصة القصيرة ) التي لم يكن لها شكلا محددا حتي ظهور تلك القصة..
مما جعل العديد من النقاد يعتبرونها بداية لتلك النوع من الأدب الحديث ..
نجح غوغول بتسليط الضوء على نوع من المعاناة البسيطة بالإضافة لتكثيف الكلمة والحالة والصورة جعلت منها مدرسة كاملة لكتابة القصة القصيرة منذ
قرن مضى والآخر انقضى منه أكثر من نصفه ومعطف غوغول لم يبلى … ولم تخلو جيوبه من الإنسانية المعبأ بها على مر تلك الحقبة من الأزمنة المتعاقبة.
هذا ما جسده الروائي والكاتب الكبير نيكولاي غوغول في روايته الشهيرة ( المعطف ).
كلّ إنسان يحلُمُ ، والإنسان الذي يرفض أنْ يحلُمَ، تدفعه ظروفه، إلى أنْ يحلُمَ. هذا ما حدث مع ” أَكاكي أَكاكيفيتْشْ” وهو الشخصيّة الأساسيّة في قصّة ” المعطف ” للكاتب الروسيّ الشهير ” نيقولاي غوغول” الذي قيل إنّ الرواية الروسيّة خرجت من “معطفه”، ويُقْصَد بذلك خروجها من صفحات قصّة “المعطف”، وليس من معطفه الشخصيّ.
مزج غوغول، في هذه القصّة، بين المعطف ولابسه إلى حدّ أنّ المعطف تحوّل، على يدي غوغول، شخصيةً نابضةً بتحوّلات بطل القصّة “أكاكي”. المعطف سيرة ذاتيّة ومرئيّة لحياة “أكاكي” الرثّة، وهو موظّفٌ درجة تاسعه مسحوق بسيطُ الشخصيّة، ومهلهل العيش والمعاش، وظيفته النّسْخ، لجمال خطّه، حيث نراه يقضي عُمْرَه كلّه نسّاخاً لا تتعب أصابعه من عشرة الأوراق والأقلام، بلْ من فرْط ولعه بالنّسخ كان يأخذ ما يتبقّى له من عمل إلى بيته المتواضع ليؤنس به عَشِيَّاتِ عزلته الباردة. قرّر أحد المسؤولين، ذات مرّة، ترقيته في عمله إلاّ أنّه امتعض امتعاضاً عكّر عمره إذ اعتبر ذلك زعزعةً لرتابة ألفها أشدّ الإلْف. كان قانعاً، خانعاً إنْ شئت، وكان الموظّفون الآخرون يستخفّون به استخفافاً يقابله بلامبالاة فاقعة النبرات وكأنّ هذا الاستخفافَ الذي ينهمر عليه من أفواه زملائه يمسّ شَخْصاً آخر.
الحياة بلا معطف، في صقيع روسيا، كالجحيم. وكان لـ “أكاكي” معطف رثّ أكل الدهر عليه وشرب، ومعاشه الضئيل لا يسمح له بشراء معطف آخر، فكان كلّما تمزّق منه جانب أو انفتق جانب يذهب به إلى الخيّاط لِرَتْيِه أو ترقيعه، إلى أنْ جاء وقت صار فيه المعطف من فَرْط تَهَلْهُلِهِ عصيّاً على الإصلاح والرَّتْق، ومع هذا كان “أكاكي” مصرّاً على إصلاحه ولكن الخيّاط رفض في الأخير حتّى مجرّد لمسه مقترحاً على “أكاكي” أنْ يخيطَ له معطفاً جديداً. هنا جنّ جنون “أكاكي” لأنّه، بكلّ بساطة، لا يملِك من المال ما يسمح له بتفصيل معطف جديد.
ولكن بعد أنْ فقد معطفُه القدرةَ على مواجهة سياط البرد اللافح، قرر اختصار العشاء وعدم اشعال شمعة في المساء من أجل توفير مبلغ من المال لتفصيل معطف جديد عند الخياط جاره. وظلّ لعدّة أشهر يذهب، يوميّاً، بعد انتهاء عمله إلى الأسْواق لدراسة أسْعار القماش، إلى أن تأمّن المبلغ وتحققّت أمنيته، بعد طول تقتير، بتفصيل معطف جديد لبسه بسعاده والخياط راقبه بالشارع ليملي عيونه من اتقانه لتفصيل المعطف.
يقول غوغول:
(( كان اكاكي اكاكيفيتش يسير في أشد مشاعره ابتهاجا واحتفالا . وكان يحس في كل ثانية من الدقيقة أن على كتفيه معطفه الجديد .. وضحك بسخرية عدة مرات خلسة , من فرط سروره الداخلي .. ففي الواقع فائدتان : الأولى كونه دافئا والأخرى كونه جيدا )) .
واستطاع أن يجعل القارئ يعيش في أجواء روحية مع اكاكي اكاكيفيتش ومع كل الفقراء على شاكلته والتي تحلم بالدفء ولقمة العيش .
وبنفس المستوى من التأثير يصور لنا هذه المشاعر ولكن بشكل مغاير حين يصف احباطات هذا الإنسان حين تتم سرقة هذا المعطف ( الحلم ) :
((أحس كيف نزع المعطف منه ..وجهت اليه ركلة وقع على إثرها في الثلج على ظهره ولم يحس بشئ أكثر من هذا .. وبعد بضع دقائق أفاق واستوى على قدميه. ولكن لم يعد أحد موجودا لقد أحس أن الجو بارد وأن المعطف غير موجود فجفل يصرخ .. ولكن بدا أن الصوت لايبلغ أطراف الساحة فانهد يركض مستميتا دون أن يكف عن الصراخ ))
مات الفقير ودفن كأي نكرة أو حشرة في المجتمع . حتى دون أن يعلم به زملاؤه في المديرية حيث كان يعمل .
هنا خرج الكاتب عن المألوف بشئ من الخيال حين جسد حالة التمرد في روح هذا الإنسان التي بقيت غير مستقرة ومعلقة بذاك المعطف ..
هي الحياة المأساوية التي يعيشها أغلب البشر في أغلب المجتمعات تتم سرقة أحلامهم بلا رحمة دون أن يهب أي شخص للدفاع عنهم ..
يرحلون في هدوووء دون أن تنتبه البشرية لوجودهم..