بقلم دكتور / رضا عبد الحليم
المدير العام بوزارة السياحة والآثار
لكل قوم من أقوام العالم عامة، مهما كانت ثقافتهم دين وعقيدة دينية يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه ولما كانت السلالات البشرية تضرب بأعماقها إلى عهود قديمة قبل التاريخ، فإنه يكاد يكون من المستحيل على الباحث المدقق في أصول الديانات، أن يتتبع الخطوات الأولى التي نهجها دين ما من الأديان القديمة المعروفة لنا من البداية حتى النهاية.
والواقع أنه حتى الاديان الحديثة العهد نسبيا ً لاتكاد تميز أصولها بصورة واضحة جلية , وما ذاك إلا أنها متصلة بالأديان القديمة التي سبقتها والتي خيمت على أصولها الأجيال العدة التي مرت عليها فأصبحت مغمورة لايعرف لها كنه , ومن ثم لم تصل إلينا إلا عن طريق الروايات التي حرفت تحريفاً كبيراً حتى أصبحت في نظر الباحثين – من الأساطير التي لا يعتمد عليها علمياً .
ومن أجل ذلك كله أصبح من المستحيل تتبع منابع أصول أي دين قديم لأي أمة مهما عظم شأنها ومهما بلغت حضارتها من الرقي وعلينا إذن ألا نطمع يوماً في أن نضع تاريخاً محدداً تحديداً علمياً لدين أية أمة من الأمم السابقة علينا بل من الواجب في هذه الحالة أن نعتمد في بادئ الأمر على ما وصل إلينا من الأساطيرالمتوارثة والرويات المتتابعة لأنها مهما كان أمرها تحتوي على النواة الحقيقية التي كساها تعاقب الأزمان ثوباً فضفاضاً من الخيال الخصب
ويضاف إلى تلك الاساطير والروايات والأحداث التاريخية الثابتة التي وقعت في تاريخ هذا الدين وعملت على تطوره لأسباب سياسية أواجتماعية .
ولاشك أن المصري القديم كان دقيقاً في ميوله ورغباته التي حددت معتقداته الدينية , ولم تخضع هذه الميول إلى الأهواء الشخصية ولكن حكمتها قواعده .
لقد أخذت الديانة المصرية حين نشأتها وفي مراحل تعددها وفي مراحل طويلة من تاريخها بتعدد المعبودات شأنها في ذلك شأن مثيلاتها من الديانات الوضعية القديمة، ولكنها ظلت أغنى من غيرها في وفرة نصوصها ووضوح قضاياها وثباتها على مبادئها ثم رقي تطوراتها التي انتقلت فيها من عقائد التعدد إلى صور مختلفة من أفكار التوحيد .
ورد المصريون الأوائل كل ظاهرة حسية تأثرت دنياهم بها إلى قدرة علوية أو علة خفية تحركها وتتحكم فيها وتستحق التقديس من أجلها , الأمر الذي أفضى إلى تعدد ما قدسوه من العلل والقوى الربانية المتكفلة بالرياح والأمطار وظواهر السماء , وبجريان النيل وتعاقب الفياضانات وتجدد خصوبة الأرض ونمو النبات وخصائص الخصب النوعي في الإنسان والحيوان بل والمتسببة فيما اتصفت به كل بيئة محلية في أرضهم من صفات لما تميزت به حضارتهم في مجملها من خصائص سمت بها عن بقية الحضارات كمزايا التبكير بالكتابة والحساب والحكمة والفنون وما يشبهها من آيات أكبروها فردوا خلقها ورعايتها إلى قدرات علوية وعلة خفية سامية فاقت البشر . وربط المتدينون بين تصوراتهم العقائدية الذهنية وبين علامات كثيرة من عالم الواقع والمحسوسات، فرمزوا إلى كل قوة عليا وعلة خفية تخيلوها برمز حسي يعبر عن سر من أسرارها ويحمل صفة من صفاتها والتمسوا أغلب رموزهم هذه فيما عمر بيئتهم من حيوانات وطيور وأشجاروزواحف لاحظوا أنه يتأتى عن بعضها كثير من الخير ويتأتى عن بعضها كثير من الشر، ويظهر أثر البعض منها في جهات بعينها وفي ظروف بعينها أكثر مما يظهر أثر بعضها الآخر، وهو الامر الذي لم يكن يخلو من إعجاز كبير في نطاق تصوراتهم القديمة التي كانت في عصورها الأولى لاتزال قليلة التجارب محدودة الآفاق .
وبوحي هذه التصورات رمزوا بحيوية الكبش الطلوق إلى بعض أرباب الإخصاب الطبيعي والنوعي , ورمزوا بقوة الفحل إلى شئ من ذلك وإلى قوة البأس في مجملها ورمزوا بنفع البقرة ووداعتها إلى حنو السماء وأمومتها ورمزوا بالحيات والضفادع إلى أرباب الأزل ورمزوا بخصائص الصقر إلى رب الضياء وحامي الملكية , وهلم جرا…….
وصاحب ذلك عوامل أخرى ارتبطت في أفي أذهان الجماعات البدائية الأولى بصور فطرية من الرغبة والرهبة والخيال , كالرغبة في استمرارالنفع والإستزادة من الخير من أجناس معينة من الحيوان والطير عن طريق تقديس القوى الخفية التي تخيلوها تتولى أمرها وتوجهها لغايتها , ثم صور الرهبة المختلفة رهبة الخوف , ورهبة العجب , ورهبة الإستعظام , التي كانوا يستشعرونها أمام أجناس معينة من الحيوان والطير , وبالتالي تجاه القوى الخفية التي أوجدتها وزكت فيها قدراتها .
وأخيراً عامل الخيال الديني المتمثل في إيمان عامة الناس بالمعجزات والكرامات وحرفية الآساطير .
خصائص الديانة المصرية القديمة 1- نلاحظ أنه ما من معبد من المعابد المصرية القديمة الكبيرة الباقية، مما خلفته العصور المتدة من عصر الدولة القديمة ,حتى نهاية الدولة الحديثة على أقل تقدير، أي خلال ما يقرب من الفي عام أنه قد تضمن مكاناً معداً لحيوان , وذلك مما يعني أن مزار الحيوان المختار إذا وجد لم يكن مقراً لعبادة فعلية مفروضة , ومثال ذلك المزار خاص بالعجل أبيس في سيرابيوم سقارة فهو مكان منفصل عن المعبد وعن مكان التعبد بحيث إذا أراد المتعبد زيارته فعل وإن شاء تجاوز هذه الزيارة .
2- إن المصريون القدماء لم يقدسوا حيواناً لذاته , ولم يقروا تماماً لأربابهم بالتجسد المادي في هيئة حيوان أو طير، وإنما كان إهتمام المتدينين منهم بما تخيروه من هيئات الحيوان والطير يستهدف رغبتين، وهما : رغبة التقرب إلى صفات إله خفي ببعض المخلوقات الظاهرة التي تحمل صفة من صفاته أو آية من آياته، ثم رغبة التقرب إليه عن طريق الرعاية التي يقدمونها ضمناً لما رمزوا به إليه من مخلوقاته
3- ترتب على التفرقة بين كل إله وبين رموزه الحية من الحيوانات والطيور أن إختلف وضع هذه الكائنات عندهم عنه لدى شعوب أخرى، فلم يكن إختيار المصريين لرمز أو فرد من الحيوان يؤدي إلى تقديس كل أفراد نوعه , ولم يكن من بأس على قرية ترمز إلى ربها بهيئة الفحل مثلاً أن تستخدم الفحول في الحقل والنقل والذبح وأحيانا تضربها , وإنما هو مجرد حيوان واحد منها يتخيره الكهنة إذا توافرت فيه علامات حددها لهم الدين ونواميسه ، ثم يتركونه في مزاره آية مشهودة حتى ينفق (يموت) وذلك على عكس شعوب أخرى قدست أنواعاً من الحيوانات بكافة أفرادها أو حرما على الأقل ذبحها وإيذائها.
4- قلت أهمية الدور الذي لعبته الهيبة والرمزية الخالصة لرموز الأرباب شيئاً فشيئاً فمنذ أوائل العصور التاريخية، وأصبحت الهيئة البشرية هي أكرم ما تصور المصريون به أربابهم وجرت العادة تبعا لذلك على تمثيلهم على هيئة الإنسان في أغلب الأحوال، مع تميزهم عنه بأزليتهم وأبديتهم ومطلق قدراتهم .
ولو أن ضرورة تمييز كل معبود منهم عن الآخر دفعت أتباعهم إلى تمثيل كل واحد منهم بحسم إنسان ورأس الحيوان أو الطير الذي رمزوا به إليه وذلك مانفذه الفنانون المصريون في صورهم وتماثيلهم في توافق لم يستطعه فنان آخر قديم أو تمثيلهم بهيئة الإنسان كاملة مع تمييز كل منهم بشارة تدل عليه وكان من هؤلاء الأرباب الأخارى الذين احتفظوا بالهيئة البشرية الخالصة : أتوم , وبتاح , وعنجتي , ومين , وجب , ونوت , وأوزير , وإيسة , ونبت حت , وسشات ,وخنسو .
5- ندر أن قدس المصريون معبوداً ذا رمز حيواني باسم الحيوان المادي الذي يرتبط به , فهم لم يقدسوا رمز الصقر مثلاً باسمه الحيواني ( بيك ) ولكن باسم رباني وهو ( حور) ,,, ولم يقدسوا إسم هيئة البقرة باسمها الحيواني وهو ( إيحة) وإنما باسم ( حتحور ) , ولم يقدسوا رمز التمساح باسمه الحيواني وهو ( مسح ) ولكن باسم ربتني وهو ( سوبك ) , ولم يقدسوا رمز الكبش باسمه الحيواني وهو ( با ) ولكن بأحد إسمين ربانيين وهما ( خنوم – وآمون ) وهكذا كان الشأن بالنسبة لبعض رموزهم الطبيعية الأخرى ومن أمثلتها أنهم لم يقدسوا السماء باسمها الطبيعي وهو ( بت )ولكن باسم ربتها ( نوت )
6- كانت بعض من أسماء معبوداتهم التي اسلفناها صفات في جوهرها , أكثر منها أسماء , فاسم ( حور ) يعني العالي أو البعيد، واسم ( سخمت ) يعني القادرة أو المقتدرة واسم ( آتوم ) يعني الكامل أو الأتم المتناهي واسم ( آمون ) يعني الخفي او الحفيظ وما إلى ذلك من أسماء يعز علينا تفسير معانيها بالتحديد .
تلك إذاً هي بعض الخصائص التي أخذت الطوائف المتنورة بها في تعليل ما بين المعبودات وبين رموزها وتوضيح صفاتها . غير أنه ينبغي أن نقدر إزاءها أن العجز البشري وعجز الإنسان القديم من طوائف العامة بخاصة , لم يكن يسمح بتحكيم المنطق والأليق دائما فيما يأتيه جمهرة الناس من أمور العبادة , فالشخص العادي قد يؤمن فعلاً بوجود إله عظيم في السماء يدعى ( رع ) أو يدعى ( حور ) وإله خفي يدعى ( آمون , ولا يتردد في أن يعظم إسمه ويسلم بقدرته على العطاء والمنع والخير والشر ولكنه إذا فاجأه البؤس والضر وجد نفسه أقرب إلى التوجه إلى المحسوس الملموس من المقدسات المادية في بيئته , منه غلى التوجه إلى رع في علاه أو آمون في خفائه , وحينئذ قد يجد هذا المحسوس الملموس في ضريح مقدس في حيه أو في تمثال بساحة معبد قريب منه أو في حيوان بمزار ما أو في شيئ وهمي لاصلة له إطلاقاً بمعبد وحينذاك لاينادي رع العالي في سماه بقدر ما يضرع إلى الروح التي تسكن شجرة الجميز في قريته أو الحية التي تسكن قمة الجبل في منطقته حتى إذا إشتد الضر به أو انصرف عنه لايجد بأساً من ثم في أن يتوجه بقرباته ونذره إلى شجرة الجميز أو قمة الجبل , وليس إلى معبد الرب كما ينبغي أن يكون . وللحديث بقية إن كان في العمر بقية إذا شاء الله وقدر إنتظروني في العدد القادم ….مع خالص شكري وتقديري