شيماء عارف
للفيضان أثره في حياة المصريين بداية من تربة مصر فهي هبة الفيضان، والزراعة المصرية بوجه عام تعتمد على مياه الفيضان، وبالطبع كان للمصريين دور كبير في تهذيب النهر والاستفادة من الفيضان والاستعداد له من خلال إقامة الجسور وحفر الترع والقنوات والمصارف، وكان لخطر الفيضان أثره في توحيد الجهود وتنظيم العمل الجماعي.
وهكذا جاءت حضارة المصريين؛ نتيجة التفاعل الفريد بين سخاء الطبيعة وذكاء وعبقرية المصريين، وهذا يتفق مع نظرية التحدي والاستجابة، ومضمونها أنه كلما تعرض الإنسان لتحدٍ كبير أو مخاطر كبيرة تكون استجاباته على قدر هذا التحدي، فمثلا الجفاف الكبير الذي تعرضت له مصر القديمة كان بمثابة تحدٍ كبير للمصريين؛ فكانت استجاباتهم اكتشاف الزراعة كما كانت هزيمة 1967 تحديًا كبيرًا استجاب له المصريون بنصر 1973، وهكذا كان خطر الفيضان تحديًا كبيرًا للمصريين استجابوا له بترويض النهر وإقامة السدود والجسور وخلافه.
ومن هنا كان الفيضان الباعث الأول لروح الوحدة والتعاون بين المصريين لمواجهة الخطر المشترك، وهذا بالطبع ساهم في تدعيم شخصية الجندي المصري خير أجناد الأرض، ثم كان التغير الكبير عندما أخذت مصر بأسباب الري الدائم منذ عصر محمد علي، وكان هذا عاملًا جديدًا له أثره البالغ في حياة الريف المصري؛ فالحياض أخذت تتلاشى وتختفي رويدًا رويدًا، والمجال ضاق أمام مياه الفيضان، فأشبعت الحقول بالري طوال العام، وارتفع منسوب المياه الجوفية في باطن الأرض.
وكان للسد العالي دوره المهم في حماية البلاد من خطر الفيضان وتوفير المياه، ولكن بقيت مشكلة ارتفاع منسوب المياه الجوفية بسبب الري الدائم وما ترتب عليها من ارتفاع تشبع الأراضي بالرطوبة وانتشار المستنقعات؛ مما ينشر الأمراض ويضعف المحاصيل في نفس الوقت ويقلل من غلة الفدان ويهبط بالمستوى العام للإنتاج الزراعي للدولة.
وهذا الخطر سيتفاقم أثره مع الزمن وعلينا البحث عن حلول طبيعية مناسبة لمواجهته، وإذا رجعنا لتاريخ بدء الحضارة المصرية فترجع إلى العصر الحجري القديم الأعلى، ويقدر هذا التاريخ بنحو عشرين ألف سنة؛ حيث بدأت صناعة الآلات الحجرية في مصر، وكان لها طابعها الخاص المميز عن بقية صناعات العالم القديم، ثم جاء العصر الحجري الحديث من نحو سبعة آلاف سنة، وفيه نشأت الزراعة في مصر؛ وهي زراعة نهرية لا تعتمد على الطبيعة فقط، كما في زراعة المطر، ولكن زراعة النهر تعتمد على الفيضان وجهد وتخطيط وتعاون المصريين جميعا تحت راية واحدة وحكومة قوية، كما تم في هذه المرحلة تربية الحيوانات وليس صيدها فقط، وبدأ الاستقرار والمدنية والسكن في الوادي، ونشأت الحرف والمهن التي تتصل بالزراعة والسكن والاستقرار.
وكل هذا يستلزم حكومة مركزية قوية لضبط النهر وضبط الناس، فلابد من إقامة القنوات والجسور وشق وتنظيف الترع وإقامة السدود وتبطين جوانب النهر، وهذا يستلزم جمع المال وإدارة قوية ومركزية لتنظيم كل هذه الأعمال وضبط الجهود وتعبئتها للصالح العام؛ ومن هنا المركزية في مصر وحضارات الأنهار ومن مصر بدأت الحضارة الإنسانية المبهرة للعالم أجمع وأسهم في هذه المركزية أن نهر النيل كان يجرى من الجنوب إلى الشمال فيدفع تيار الفلك في هذا الاتجاه على حين كانت الرياح السائدة في مصر تأتي من الشمال إلى الجنوب فتملأ أشرعة تلك الفلك وتعينها على التصعيد ضد التيار.
وهكذا أصبح مجرى النيل شريانًا للمواصلات والتجارة بين الدلتا والصعيد ولو كان النهر يجرى من الشمال للجنوب وكانت الريح السائدة تأتي من الجنوب للشمال لما استطاعت مصر تحقيق وحدتها بين الشمال والجنوب؛ ولذلك كانت مصر موحدة وعصية على التقسيم منذ فجر التاريخ فهي بحق كنانة الله في أرضه يمكن تلخيص أهم الدروس المستفادة مما سبق في النقاط الآتية أن حضارة مصر أول حضارة في الكون، وهي ليست نتاج الطبيعة وحدها؛ فمصر ليست هبة النيل فقط، بل هي نتاج هبة الطبيعة وجهد أبنائها؛ لأن حضارة النهر تستلزم جهدًا بشريًا كبيرًا في التعاون والتخطيط والإدارة، وهذا يستلزم عدة شروط أساسية تبدأ بالوحدة بين أبنائها لحماية مصالحهم المشتركة، ثم دولة مركزية قوية لضبط وتنظيم النهر والشعب معًا.
ومن هنا جاء التجانس بين المصريين والوحدة العريقة من آلاف السنين فمصر عصية على التقسيم مهما حاول الأعداء بمشيئة الله؛ ونتيجة تفاعل المصري مع ظروف بيئته تميزت الشخصية المصرية بالانضباط والنظام والتعاون والتخطيط، وهذا ما يفسر خير أجناد الأرض، وخاصة مع أهمية موقع مصر أرض الزاوية وحلقة الاتصال بين دول العالم؛ مما جعلها مستهدفة للسيطرة عليها من جانب القوى الكبرى.
وهذا في حد ذاته كان تحديًا للمصريين وعاملًا مهمًا زاد من خبراتهم القتالية والنضالية، بسبب الموقع فهم في رباط إلى يوم الدين، فهم أبناء أرض الكنانة، حماها الله وأكرمها عندما تجلى المولى الكريم على أرضها، وكلم نبيه موسى في الوادي المقدس طوى في سيناء الحبيبة.