نصحتنى بألا اذكر كرموز…قالت بأن الناس مظاهر وان مركزى لا يسمح ..قالت بأن الزمن تغير وان التعالى هو سمة العصر..نصحتنى مشفقة وكأنها سبة…..نصحتنى بإخلاص…اعرف ذلك…وبكل اخلاص…كعادتى…لا استجيب للناصحين..
(الجيهة)..
اصوات النائحات فى منطقتنا تعلو كأجراس الكنائس..فى الاسكندرية كن مطمئنا…لن تذهب لمستقرك الاخير دون مظاهرة حزن عارمة..علا شأنك او هان فلن نتركك ترحل دون وداع لائق…عشت فى مدن أخرى تهتدى بالسنة أو العادات…اما عاداتنا هنا فسمتها الصخب… الشعبيون يطلقون على مناطقهم السكنية اسم “الجيهة”..الطفل الصغير يلعب فى الشارع..بيتهم مجاور لمقابر العمود..اختصارا لعامود السوارى..الأثر الشهير المحاط بتلك المدافن…مشهد مرور الجنازات مشهد اعتيادى وكذلك الصراخ والعويل..لم افهم الا بعدها بسنوات أن الاسوار الطويلة تحوى امواتا…او بمعنى أدق لم افهم وقتها معنى الموت..وإن تعلمت من اصحابي الأكبر سنا بأنه عند رؤية النعش لابد وأن ارفع اصبع السبابة اليمنى وان أردد الشهادة..بالتعود صرت افعلها تلقائيا عند مرور جنازة .
من حارة شعت لحارة الامل لحارة السلام…اثنى عشر حارة متوازية تفصل بينها البيوت المتهالكة…من اربعين سنة قالوا بأنها ستسقط حتما فوق رؤوس قاطنيها…ولكنها لسبب ما ..مازالت مصرة على البقاء .
فى الصباح تشم رائحة الفول والفلافل تعبق الأجواء…فى الصباح.. لا صوت يعلو فوق صوت الفول والفلافل ..ببريزة فول وخمسة عشر صاغ فلافل.. وليمة الصباح العتيدة لاسرة متوسطة العدد.
لو اخترقت أحد الحارات..فأمام كل بيت طشت غسيل وامرأة منكبة عليه تحتضنه بين أرجلها..حولها أطفال غالبا عراة أو بملابس داخلية يلعبون وهى تمرش أحد قطع الغسيل ولا تنقطع عن الكلام مع جارتها..وتلك مع التى تليها…وهكذا يمضي الكلام من اول الحارة لاخرها كسلسلة تواصل إجتماعى حقيقي.
الثقافة هنا لبنانية..فاللقب المفضل لمخاطبة السيدات هو…يا مرة…لا عيب فيها ولا إهانة الا حسب السياق..تستخدم احيانا فى الردح واحيانا أخرى للتدليل.. فالثقافة هنا لبنانية.
بعد وجبة الفول ينطلق الشباب والرجال لممارسة أعمالهم …الاقحاح منهم يتبادلون تحية الصباح بسب الدين أو ذكر الأم…صباح الخير يا بن….صباح النور يا ….امك.
لا يقصدون الإساءة ..بالعكس..انه العشم ودليل المودة والحميمة ..لا بأس إن لم تتفهم….فتلك ثقافة سكندرية..
أن مررت بشارع الرحمة فلابد. أن تكون من السكان ..او بصحبة أحدهم…وفى الحالتين من الأفضل ان تستقر المطواة فى جيبك الخلفى…لقرن الغزال سمعة طيبة هنا…غالبا للتهديد او الحماية لا للاستخدام الفعلي الا من صايع قرارى..
الشارع مشهور بتجارة المواشي..على جانبيه تتناول الاغنام غذائها المعد فى طاولات خشبية طويلة ذات ٱرجل ..مما جعل للشارع رائحه مميزة لا يمكن تجاهلها.
تسري الشائعات فى المنطقه عن ساكنى القبور…الاحياء منهم وليس الاموات…مسجلين خطر..صيع وقتلة ..أشهرهم ..أبو كرش….يدعى ابناء الجيهة بفخر أنه ضرب نار على حملة الداخلية..وأنهم طاردوه بالأسلحة وهو يفر منهم جريا على سور العمود…يحكى بعضهم أنه حوصر فى الظلام بالداخل..فما كان منه إلا أن فتح أحد الترب وبات ليلته بداخلها…يقال إن الجن قد ظهر له فى تلك الليلة…واعجب بقوة قلبه…فتٱخيا وصار الرجل منيعا.
الهاربين من أحكام الاعدام والمسجلين أنفسهم يخشون أبو كرش..رأيته فى حياتى مرتان.. الاولى وانا طفل…كنت بصحبة اخى الأكبر فى محل الشميري الجزار…وكان هناك زبون نحيف الجسم بملابس عادية…لا شىء مميز فيه إلا جرح قديم بطول وجهه….الخوف الظاهر فى معاملة الجزار معه واحترامه الشديد له كان غريبا…فالشمبري لا يحترم أحدا فى الجيهة..حتى نفسه..والأغرب أن الزبون كان يختار بنفسه قطع اللحم والأخر يستجيب..وتلك معجزة أخرى..فمجرد محاولة أحد الزبائن التعديل على لحمة الشميري ستنتهى حتما بذكر أبويه بسؤ ..وسماعه لأصوات منغمه تصدر من انف الجزار ستقنعه بعدم التكرار.
تركنا المحل فسألت اخى عن الزبون المعجزة..
فأجاب بزهو:
-يا بنى متعرفش ابو كرش..هوا ده.
ذهلت…فالصورة التى رسمها خيالى للرجل أنه ضخم الجثة..متوحش الملامح والسلاح لا يفارق يده.
سالته متعجبا:
-مش معقول يا عم…ده حتى ملوش كرش.
ضحك وأوضح لى أنه مجرد لقب لانه فى أحد الأيام” جاب كرش واحد ف خناقة”.
لم افهم التعبير ولكن ذهنى عدل الصورة المرسومة للرجل وزادت هيبته فى نظرى لأكتسابه هذه السمعة بهذا الجسد النحيل.
بعدها باربعة عقود وبعد تفرق السبل التقيت بأحد جيراننا القدماء بقهوة السلطان حسين بمحطة الرمل..وأثناء حديثنا أشار إلى عجوز مهدم على كرسي متحرك تحتويه ملابس رثة يجلس بصحبة رجل يرتدى بدلة فخمة..وقالٕ:
-تعرف مين ده؟
نظرت..أمعنت النظر…ثم اجبت فى حيرة:
-لا …مش واخد بالى.
اجاب صاحبي:
– ده ابو كرش.
لا…صدرت منى بلا وعى..ولكن نظره صاحبي الجادة أكدت ما يقول..ثم أكمل:
-واخد بالك مين اللى معاه ده؟
ده حوده ابن ٱخته..الدكتور..فاكره؟
تذكرت حوده ..نعم وتذكرت والده شهيد اكتوبر الذى سميت مدرستى الابتدائية بأسمه…صار الولد طبيبا شهيرا ولم تقف سمعة خاله عائقا أمام ذكائه اللامع.
تركنا القهوة وتمشينا تحت امطار خفيفة إلى منطقتنا..نتنسم شيئا من ايام الطفولة أو ربما باحثين عن أيام فقدناها…
كرموز العتيقة…التى نشأ منها صياعا وحرفيين وبرجوازيين.. وشهداء…وسط الشوارع الخالدة نمضي كغرباء..غزا الشيب رؤوسنا واحتلها…توغلنا فى الحوارى الضيقة..كانت شبه خالية فى هذا الوقت من النهار ..اطفال يلعبون امام بيوتهم وشباب مندمجين بهواتفهم المحمولة….
اثناء المغادرة طالعت بوابة العمود الرئيسية….الشارع مغلق بسبب جنازة…العويل والصوات يعلو كأجراس الكنائس…مر النعش من امامى فرفعت اصبعي السبابة مرددا:
-أشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله.
ألقيت نظرة أخيرة على المكان الذى رحلنا منه أطفالا ونغادره الان كهولا نجر أقدامنا..
حسنا….لم يتغير شئ..
أو ربما …
تغير كل شىء.
عدد المشاهدات : 68
مرتبط
زر الذهاب إلى الأعلى