ابي هنا…
ابي يرقد هنا منذ شهور…شخص الأطباء البؤساء حالته بأنها ميئوس منها…وماذا يعرفون؟ صار بينى وبينه ميعاد يومى لا اتأخر فى الذهاب إليه مهما كانت الظروف…
الغريب اننى صرت أكثر ارتباطا به بعد تمكن المرض من جسده..
تجلي احتياجى له وأنا رجل فى الاربعين كما لو عدت طفلا..
كرسي وحيد أمام سريره ادفن نفسي فيه يوميا لمدة ساعة لتنساب الذكريات..ما ابعد هذا الوجه الشاحب عن وجه ابي…اتذكر خطواته الواثقة وجسده الفارع وهو يصحبنى لزيارة فى العيد وانا فخور ومحمى به…قاموا ببتر قدمه اليمنى منذ شهرين…والان يسعون خلف اليسرى…يقطعون ابي كشاه حفاظا على حياته..اى حياة يقصدون..اجلس أمام ما تبقي منه متخيلا نفسي فى مكانه…كل ما أتمناه لنفسي هو موت بلا الم…بلا الم طويل على الأقل..وابي قد تألم طويلا جدا…بدأت رحلته الموحشة بجلسة غسيل كلي…وانتهت به شبحا..اتحاد الفشل الكلوى مع السكر أسقطه فى حفرة بلا قرار.
منذ فترة كدت اشعل النار فى المستشفى عندما علمت بأن طبيبه يرغب فى نزع أجهزة الحياة عنه..كدت اقتله…اللعين يرغب فى اغتيال ابي..تكاليف العلاج مرهقة لموظف مثلي اتحملها راضيا كى لا اصير يتيما…محظوظ من بلغ الاربعين ومازال أبويه احياء..ولكن ابي يتألم..
شاهدت مولانا ذو اللحية الكبيرة على التلفاز بالأمس
يقول للمؤمنون والباحثين عن تعزية بأن لتلك الآلام حكمة..فهى تكفر عن الذنوب وتخفف من عذاب الأخرة…او انها عقابا إلهيا عن الخطايا فى الدنيا.
حضرة الشيخ دعنى اسأل لحيتك الحكيمة سؤالا إجباريا عن طفلة صديقي التى رحلت فى التاسعة جراء سرطان الرئة…عن اى ذنوب كفرت ٱلام هذا الملاك؟وما الذى اقترفته الصغيرة من خطايا من أجل أن ينهشها المرض؟ لحيتك الحكيمة تعرف علة كل شئ..فإصمت.
مكانى فى الجحيم محجوز على ايه حال منذ خنت مريم…انظر إلي ابي متسائلا عن كم الذنوب التى اقترفها حتى يواجه هذا العذاب..مقايضة خاسرة لا ابتغيها..ما الامل بالنسبة له حتى لو استفاق..ما جدوى الحياة بلا امل..فى كل مرة اخترقت الابر جسده الواهى باحثة عما يشبه الوريد كنت أشعر بوخزها يخترقنى…سبعة أجهزة متصلة بيديه ورقبته تحاول شده من السقوط النهائى… يستفيق احيانا بلا كلام..نظراته لا تنتمى إلى هذا العالم ويري اشياء لا اراها … تحمل فى طياتها آلاف الاوجاع و الرسائل تقتحمنى دفعة واحدة..إن كان لليأس معنى فأنا هو…راحته من عذابه تحوى راحتى من مصاريف العلاج وعناء الزيارات اليومى..لو فعلتها أمن أجله ام من اجل انانيتى وتحررى من فرع ذابل؟ وبم سيحكم ضميري لاحقا على ذاك القتل الرحيم..
بلا مشاعر او بكل ما بي من مشاعر وقفت أمامه ..إلتف حولى ملاك وشيطان..بدأت فى انتزاع الأجهزة عنه من الاول للسابع…ست مرات فى كل منها كنت انزع فيها شيئا من روحى..
ترددت أمام الاخير برهة…ترى..اى جزء من حياته مرتبط بتلك الٱله ومن سأكون بعدها..
فجأة فتح عيناه…عاد وجهه شابا كما كان عندما حملنى لأول مرة وانا فى المهد…نظراته تحمل حبا ورجائا وامتنان..أحتضنت يده بيدى مشجعا وبيدى الأخرى نزعت الجهاز الاخير…
سكتت الاصوات وساد الهدوء ..
اغمض عينيه مبتسما.. فجلست بجواره جامدا كجثة أرنوا الى شمس غاربة تفضى إلى ليل بلا نهاية.
عدد المشاهدات : 48
مرتبط
زر الذهاب إلى الأعلى